“بدأت قصتنا مع اتصال هاتفي في وقت الغداء، حينها قاطعت تناول الغداء، وجهك المتعب يصبح منفرجا، فرحة كالأطفال انتابتك، فجأة، لم تحدثني، تركتني في حالة من التساؤل الداخلي، ترى ماذا كان هذا الاتصال؟ لم أسألك، وكانت نفسي تقول: دعيه يخبرك هو. هأنت تستعد للقيلولة كالاعتياد، أخذت لوحتك الإلكترونية، وفتحت عالمك الأزرق، لتزف للعالم الخيالي الخبر الذي لم يخطر في بالك أني أهم منهم، كتبت على حائطك الفيسبوكي عبارة: “تم بفضل الله استدعائي ضمن الوفد الديبلوماسي الذي سيشرف على السفارة، في مدينة روما”. بالطبع انهالت عليك كمية كبيرة من المهنئات والمهنئين، وتهاطلت عليك أعداد غفيرة من المعجبين والمعجبات، فتحت القائمة، فوجدت جلها من النساء، لم أستغرب، وأنت ذلك الشاب الوسيم والمثقف، وليبقى الحرف والكلمة، فنساء العالم تتمنى الحديث معك، ليست غيرة مني، فقط كان حب فضول، فأنا كنت أدرك جيدا إلى أين تذهب!!! استيقظت بعد نومك، جلسنا سويا، أخبرتني بتفاصيل رحلتك، قلت إن المهلة مفتوحة، وأنك ستكون عضوا دبلوماسيا، وأن وحدتي هنا في البلد قد تطول، واعتذرت لأنك لا يمكنك أن تأخذني معك، عيناك كانت تتحدث بخجل، لا يزيد الرجال إلا جمالا ورجولة، وأنت تتأسف وتقول المبررات. بدأت تعد العدة للسفر، أصبحت كثير التسوق والخروج لزيارة الأقارب، والأصحاب تودعهم، وتناسيت أم أنك نسيت أنني الأقرب لأودّعك، لم يتبقَّ إلا يوم واحد على رحلتك، كنت أتأمل أن تخصصه لي، لكن أعمالك الكثيرة منعتك من ذلك. ودّعتك في اليوم الموالي، وبدأت قصص الرسائل الإليكترونية، لقد وصلت سالما، اتصلت عليّ من هاتف الفندق، لتخبرني بذلك، وتخبرني بأنك ستكون مشغولا طيلة هذه الفترة وأن المسنجر هو المكان الوحيد الذي سأراك فيه. عشرة أيام تمر على سفرك، غرفة النوم لم تطأها قدمي، سريرنا بحالته، بدأت أفتح لوحتي الإليكترونية كل الوقت. في غربتك أركب موج هذا العالم الأزرق، أرتقب سيرك على درب الكلمات، أتبعه، إلى أين سيصل؟ أو أين سيقذفني؟ أتنفس روحك، بين الطرقات، أشتهي أن أفتح جهازي على صفحتك ولا أغلقه حتى يأتيني منك خبر. رسالة منه تقول: لا تتحدثي معي بالهاتف، اكتبي لي، رسائلك أكثر دفئا من الحديث، كلماتك نسق طويل يصل إلى حيث أنا، كوني امرأتي أيضا في الغربة”. هي تكتب: أتخيلك الآن على مكتبك المعتاد، قهوة الصباح بالقرب منك، صوري على لوحة هاتفك تتمايل، أتخيّلك تقرؤني، وتقول في نفسك: دعك من هذا العالم، فكوني لي طفلة فأنا المنفى وأنت الوطن”. هو: “صدّقيني يا عزيزة قلبي أني أحتاج لكل تنهيداتك في هذه الغربة، هذا البرد يقضي على شبابي، نحن كنا في وطننا أحلى”. هي: “سرقتك الغربة عنا وعن الوطن، ومن بعدك أنا في غربة أيضا، نحن نكمل بعضنا البعض، أنت ينقصك الوطن وأنا ينقصني أنت”. في غربتك رسائلك الإليكترونية أكثر متعة، تحاول سرد الوطن بفكرتك وأرد عليك بغيرها، ثم تذهب لتصف المرأة، وأذهب أنا لأغيظك بوصف الرجل، تتسلل لترمي الكرة عند ملعبي، فتتركني أفرغ كل حروفي السلاحية ضدك، ثم تعود برزانة وهدوء. كنت في الوطن تخبرني، وتقول: ياسمين، أنت تتعاملين مع الكتابة كطفلة لذلك تفوزين بكم هائل من القرّاء، أنت كاتبة ممتازة، كل رواياتك تجذبني أحس أنني مكتوب فيها. الآن فقط يا حبيبي أكتبك هنا، أنا أحس بذلك. تتذكر عباراتي جيدا هذه التي علّقتها على حائطي، هاجمني رجل كان يحمل هو أيضا صفة الديبلوماسية في عمله، نعتني بالمغرورة، وأنني أعلن الحرب على الرجال، كنت قد كتبت: “دبلوماسية الرجل في السياسة، تتغير أمام المرأة، عندها فقط يصبح أكثر دبلوماسية”. ذات صباح أرسلت رسالة باكرا جدا، قلت فيها: “اشتقت إليك بحجم الوطن”، لم أحبَّ أن تقارني بالوطن، فالاشتياق للوطن ليس الاستجمام والمتعة. لذلك كتبت هي: “ازداد بُعدك، كما ازداد بُعدي عنك، أتعرف أنني كلما أسكنت الوطن في قلبي شعرت بقُربك أكثر، وأنت كلّما ازداد حنينك للوطن، أحسست بي أكثر، جميل أن يجمعنا الوطن في طريق واحد”.
كان ذلك قبل ثلاثة أشهر، مرّت تلك الأشهر سريعا تغيرت معاني الرسائل، برود ما ينتابني منك، أو يصلني منك، كأنك أحببت غربتك عني، جعلتني أكتب على يومياتي عبارة اختزنتها، هي: “مدينة قلبي خالية، أخذت معك الذكريات، ورحلت تجوب هذا العالم، وظيفتك كانت عبئا ثقيلا علي، بقدر ما هي راحة لك، لكنك لم تتراجع عند قراءتك هذه الرسالة قبل إقلاع الطائرة”. تتذكرها جيدا، لمتني عليها لم أستطع الاحتفاظ بها أكثر، فأخبرت بها عالمك. كان منك أن تطلبني للحديث هذا المساء عبر الهاتف… هي: “لا أجيد الحديث إلا في الرسائل، الكتابة هي تعبير نفسي، أعبُر به إلى عالم الحب، وأنت تريد سماع صوتي وأنا أريدك أن تقرأ حبي، فالفارق هو الإحساس يا رجلي”. هي: “أنا وأنت نلتقي في ورق، على شكل كلمات، يزور كل واحد منا الآخر بحنين، الغربة متعبة جدا وغربتي معك وحدها التعب الأكبر يا حبيبي”. كانت الأيام والساعات تحسب بالأعوام، غيابك القاتل لي، المعنف لإحساسي، ازداد عندي إصرار رهيب للتغلّب عليه. رسالتان فقط في اليوم، هو: كيف حالك؟ وتجيب هي: لا بأس علي، الحمد لله وانتهى اليوم باهتا ومنهمكا، ما أجمل هذا الوطن الذي التقينا فيه! كيف تبادلنا الحب، وانغمسنا في إعداد فنجان الحرية له؟! كيف عشت معك الوجع؟! غربتك وبُعدك عني قبل عملك؟! كل الذكريات القديمة قبل الزواج بدت تخطر على بالي… وحتّى الحديثة منها. “صورتك التي بقيت منذ أن سافرت ما زالت بحالها، فيّ عادة أني لا ألمس الصور، وأخاف الاقتراب من الذكريات ربّما”. بدأت أحلامي كلها كوابيس، غيابك عن رسائلي، يوسع من حدود الشك، تغيرت، برودتك تزداد…
في ذلك اليوم عرفت هي السبب. كانت تتصل بغرفة الفندق، كان هو في بهو الفندق، وكانت تلك المرأة داخل غرفته، حينما أمسكت بالهاتف لتقول: مَن معي! أمسكت أنا بكل العالم لكيلا أنهار… كل شعور الحب لا يوازي طعنة ظهر امرأة حملت معك هموم الغربة يا حبيبا كان، هكذا كتبت على يومياتي، دون أن أسرد شيئا. بدأت أشعر بالضياع، عند نطقي لحبيبي، وتمسكت برشدي، بعقلي، وبفكري، مجنونة كنت بك، والآن أوقّع بكامل قواي العقلية على ورقة طلاق حبنا. الخيانة الشيء الوحيد الذي لا تغفره النساء، لذلك لا تضع الأعذار، قبلها كنت أخبِّئ لك حلما، كنت سأكتب لك: “زارني في الحلم مرتين متتاليتين: الأولى جاءني حاملا معه صفة الدبلوماسية، والثانية كان قد تخلّص من عقدة السياسة، ليخبرني أني روحه المسكونة في داخله، جعلتني وطنه الدافئ في الغربة”. كانت ستكتب حلمها هذا قبل يوم من حبها الذي كان… منذ سافرت أصبح العالم لي، ولكنك غدرت بي، رسالتك الأخيرة: “إني أحبك ولا يمكن للمرء أن يحب دون أن يغلط؟” عذر أقبح من صاحبه. أخبرتك تلك المرأة أن رقما اتصل، وأنه لم يتكلم منه أحد، حدسك البديهي قادك إليّ، نعم كنت أنا. أتذكر عندما التقينا صدفة، لم نعرف أن القدر قد جمعنا لبعض إلّا لكي نتألم، أنا وأنت اجتمعنا وبقينا، لكن أرواحنا رحلت!! غادر الحب مخدعنا، أصبحت كثير الكتابة، والصمت الذي انتابني أنا وأنت جعلك أحمقَ أو مهووسًا، كل يوم يزيد في الغربة، تستصرخ روحك، هل فكرت أن عذاب الروح سيطاردك إلى المدن الأوروبية؟ هو: “أنت روحي التي تركتها هناك، وأنت الحياة التي كانت هنا، غيابك بصمة حزن على وجهي الذي لم يعرف أن للدموع طريقًا يمر من تجاعيده”. انتهت هذه الكلمات على صفحتك من وصف حالتك. أتذكر ذات مساء، كلماتنا في الرسائل، أتذكر أني قلت لك: لا تلاعبني بإحساسك الضخم، فأنا طفلة، قد تتعلق بك في أي وقت، وقد تنكسر كوردة لم تجد الماء ولن تعود كما كانت، ذللتني أكثر وأنا أقول كفى، وكنت تزيد، حبك هذا الجبان، الذي استسلم لحدوده، لبعده، لفكرته القاتلة أن البعيد عن العين بعيد عن القلب، قاتل لطفلتنا الصغيرة، ولأحلامنا الوردية. ذات ليلة باردة برودة الكلمات التي بيننا، ترتسم على القمر الذي يظهر جزء منه على شباك أريكتي، هل كان لا بد أن ترحل ليعود البرد فراش الياسمين، وتصبح صورتك في أعالي السماء، أنتظرها لتمطر حبك في الغربة؟!”، بهذه الكلمات كانت تشتاق له، كانت تعزّي نفسها بعد الغياب، وبهذه الكلمات مخدوعة هي والآن هي تقاوم بالذكريات وبأدقّ التفاصيل حضوره في حياتها. وقفت في وجه الألم تحاكي صورته، أصبح النظر إليها عاديا جدا، هي بكت عليه، لا تنكرها. كنت تريد حبا مواسيا لك في غربتك، فأصبحت تبحث عمن يواسيك في فقدان روحك هناك. مدن كمدن أوروبا رائعة الجمال، نساؤها كذلك، ترى كم عاشرت منهنّ؟! وكم خنتني من مرة؟! وكيف كان شعور حبك وهو يتذوق لذة الخيانة؟! ألم يتوقع أن امرأة محمّلة بك وبأعبائك سترحل عنك تاركة إيّاك تتخبط؟! الخائن على القلب، خائن على الولد أيضا، وأنت كنت فيما مضى، حلمي بالولد. منذ أحببتك مارست معك طفولتي، كامرأة تشتاق إلى زمن غير هذا، أبعدتك عن الحياة الأليمة، وضعتك في بستان من الياسمين، وغطّيتك بحناني، كحنان الأم الذي بكيت شعور فقدانه على صدري. رسائلي الأخيرة عن الخيانة كانت ما قبل الوداع ورسائلي الآن هي لوداعنا. كتبت على صفحتي هذا الصباح عبارة أدخلت لي الفرح: “سلاما لروحك هنا وسلاما على روحي هنا أيضا، وأما بعد؛ “فقط سوف تصبح وتمسي على أحرفي؛ لأنك لم تعتَدِ الغياب”… دخلت إلى غرفتنا التي أغلقت عليها قلبي، جمعت أمتعة حبنا، كل ذكرى عندي معك، فضلت أن تكون لك، لكي تتذكر. هأنذا أغادر منزل حبنا، إلى حياتي، أنا وحدي، قبل لقائك، لست أسيرة ماضيك، أو مواسية غربتك، أو معاتبة خيانتك، أنا فقط في هذا العالم، أشعر أني نسيتك، هذا الألم الذي جاء منك بعثرني، أنشأني بروح وقلب خالٍ منك، ونفس تتشكل كما كانت قبل لقائك، سأسردك في كتاب، هذه المرة يمكن أن أقول لك إنني كتبتك نعم، كيلا أعيش لك، كيلا أسقط من بعدك، نعم على صفحتي كتبت ربما عباراتي الأخيرة لك ستقرأها ببداهتك المعتادة، وستفهمها. هي تكتب: “كل رجل يظن أن امرأة تبكيه، كل هذا الحد، سوف تسقط من بعده، ذكاؤك الدبلوماسي لم يساعدك في قراءة أحرفي، إنه غباء العشق الذي يُعمي العقول، المرأة التي تكتب لا يستهان بها، والمرأة التي تقرأ تخيف”. منذ اللحظة الأولى للخيانة قررت، وبعدها الآن أمارس طقوس الطيران كفراشة، أصبحت أطير بين بساتين الحياة الملونة، تاركة لون العتمة الذي كاد يقتلني معك، فارّة من جحيم حبّ كاذب هش، كاد يسرق مني عمري، منذ زواجنا لم أكتب، وكنت أكتبك ربما في داخلي، نعم تخلصت من حجرة قطعت طريقي، لكيلا أصل للقمة، وبدأت الآن حياة أخرى، وهذه المرة سأكتبك في روايتي القادمة، لكيلا يعلق شيء في الذاكرة ولكيلا أسقط، بعنوان: “رسائل إلى رجل دبلوماسي”، نفضت الغبار عن نفسي الضعيفة معك… الآن بدا لي حبك يهوي ويرتفع حلمي.
دولة بيروكي